Id | Title | Start page | End page |
---|
Id | Title | Start page | End page |
---|
الأدب العربي، شعره ونثره، مسكون في معظمه بالحياة والحلم والثورة، فكان الكثير من المبدعين العرب، مفكّرين وروائيين وشعراء، على مدى خريطة الوطن العربي الكبير، يتحلّون بقدر عال من الوطنية والوعي والشجاعة والتحرّر الذاتي... وربّما رفع بعضهم جميع الأقنعة، وسمّى الأشياء بأسمائها فإذا هو وجها لوجه أمام عصا السلطة والمساءلة والاضطهاد... على أنّ مدونةَ هذا الشعر، في هذا الغرض بالذات، بحرٌ مترامي الأطراف لا نكاد نرى له ضفافا على المدى المنظور. لهذا لم نرَ بدّا من أن نحصرَ بحثنا في واحد من أهمّ هذه الروافد، هو الشعر التونسي، وأن نقصر مدونتنا الشعرية في الوقت نفسه، على الفترة الممتدة من استقلال البلاد إلى تاريخ سقوط النظام مَطْلَعَ سنة 2011م. وعلى هذا سمَّينا بحثَنا: الشعرُ العربيّ الذي بَشّر بالثورة، تونس نموذجا. لذلك سيتناول هذا الكتاب بالتنويه والدرس الشعر الوطني العربي الحديث في تونس على صعيد مضمونه الاجتماعي السياسي الملتزم بقضايا المجتمع، المناوئ للممارسات السياسية الاستبدادية، والذي كان له دورٌ جليل في التململ الثوري الذي عاشته البلاد كما عرفته عدّة أقطار عربية لسنوات طويلة إلى أن انطلقت أخيرا، أولى شراراته من تونس.
مدخل نورالدين عزيزة على الشاعر أن يَقِفَ على الحَاضِرِ، يَسْتَشْرفُ الآتي، ويَمْنَحُ الرُؤْيا بول إيلوار حفلت الساحة الأدبية العربية في العقود الأخيرة بما تدرّه طواحين المطابع ودور النشر من كتب في مختلف الأجناس الأدبية، ومجلات ودوريات عادية ومحكّمة في التنظير والنقد، إلّا أنّ النصوص الإبداعية ذات الخلفية النضالية القُطْريّة قلّما حظيت بعناية كافية لدراستها، فإذا ما حصل ذلك، فإن الأمر لا يخلو في الغالب من أن يكون مجرد مقاربة شكلية أسلوبية للأثر المعنيّ دون المضمون، أو أن يأتي مضمونه «المناوئ للسلطة» عرضا في تمثيل لملامح مدرسة أدبية أو تطبيق لنظرية نقدية أو منهج تحليلي، وإمّا أخيرا، أن ينحرف القلم بالمضمون «المعارض»، إلّا في ما ندر، ليوجّه الأنظار إلى قضايا ذاتية أو عامة أخلاقية وغيرها، تجنّبا للصدام مع أيّ جهة نفوذ حاكمة، معنية بأصابع الاتهام. ولا شكّ أن مناخ السياسات العربية عامة والدكتاتورية منها خاصة، قد فرض على الساحة الأدبية والفكرية والمدنية، تضييقا متزايدا على حرية التعبير، تحوّل بمرور الأيام إلى مراقبة ذاتية أصبحت لدى الكثير، أقرب إلى السلوك الطبيعي، منها إلى الخوف من بطش السلطة. غير أنّ الأدب العربي، شعره ونثره، مسكون في معظمه بالحياة والحلم والثورة، فكان الكثير من المبدعين العرب، مفكّرين وروائيين وشعراء، على مدى خريطة الوطن العربي الكبير، ولا يزالون، يتقدّمون أشواطا على النقاد والباحثين والأكاديميين، وكانوا في الغالب، يتحلّون بقدر عال من الوطنية والوعي والشجاعة والتحرّر الذاتي، فما كانوا يتهيّبون اختراق الخطوط الحمراء والقفز على أسوارها، بما لهم من حماس وطني وخيال وطاقة إبداعيّة وأساليب فنّية موروثة ومبتكرة ؛ ملتجئين إلى الرمز حينا، متكئين على الأسطورة والخرافة حينا آخر، مستدعين أحيانا، شخصيات تاريخية وأدبية، عربية أو إنسانية كان لها أثر إيجابي في الواقع الذي واجهته. وربّما رفع بعضهم جميع الأقنعة، وسمّى الأشياء بأسمائها إلى حد السقوط في المباشرة الفجّة، وانسلاخ عمله من جنسه، ما يجعله وجها لوجه أمام عصا السلطة والمساءلة والسجن، أو الحجْر والاضطهاد. وهذا الكتاب سيكون حديقة يلتقي فيها شعراء من هذه الشاكلة وتلك. إذ سيتناول بالتنويه والدرس الشعر الوطني العربي الحديث على صعيد مضمونه الاجتماعي السياسي الملتزم بقضايا المجتمع، المناوئ للممارسات السياسية الاستبدادية في الوطن العربي، والذي كان له، كما بدا لنا، دورٌ جليل في التململ الثوري الذي عاشته عدّة أقطار عربية لسنوات طويلة إلى أن انطلقت أولى شراراته أخيرا من تونس. إلّا أنّ مدوّنةَ هذا الشعر، في هذا الغرض بالذات، بحرٌ مترامي الأطرف لا نكاد نرى له ضفافا على المدى المنظور، ما يجعل خوضَ عبابه يحتاج إلى أسطول هائل من السُفن والربابنة والملّاحين. لذلك لم نرَ بدّا من أن نحصرَ بحثنا في واحد من أهمّ روافد هذا البحر، هو الشعر التونسي، وأن نقصر مدوّنتنا الشعرية في الوقت نفسه، على الفترة الممتدّة من استقلال البلاد إلى تاريخ سقوط النظام مَطْلَعَ سنة 2011م. وعلى هذا سمَّينا بحثَنا: الشعرُ العربي الذي بَشّر بالثورة، تونس نموذجا. *** أمّا مادة المدوّنة فهي مستمدّة إمّا من مجموعات شعرية، أو مختارات شعرية مشتركة أو نصوص منتقاة من صحف ومجلات. وقد تعدّدت مصادرها ؛ وأوّلها وأهمّها مكتبتي الخاصة، وثانيها المكتبات العمومية وعلى وجه الخصوص المكتبة الوطنية، فضلا عن مكتبة بعض الأصدقاء، وآخرها اتصالي المباشر ببعض الشعراء والتماسي منهم مدّي بما لم يكن في متناولي من أعمالهم الشعرية التي لم أستطع الحصول عليها من مكان آخر. وقد يسعفني الحظ من حين إلى آخر في العثور على مجموعة شعرية في مكتبة أو على الطريق بين معروضات باعة الكتب المستعملة، فإذا بتلك المجموعة تشكّل لأهميتها لبنة إضافية في هذه الدراسة، رغم أن الثمن كان كبيرا أحيانا، إذ أجبر على مراجعة فصول كاملة وتنقيحها بمزيد من الجهد والمشقة والوقت، ولكنّني أقبل عليها في الآن نفسه، بسعادة طفل وقعت بين يديه لعبة نادرة جديدة. غير أنّ ذلك يعني مع الأسف، أنه لا بدّ من وجود مجموعات أخرى لم تطلها يداي، لخلوّ مكتباتنا منها لسبب أو لآخر كالضياع أو السرقة أو عدم توفّرها فيها من الأصل. وذلك ما قد يجعل هذه الدراسة، مهما تحاول أن تكون شاملة، معرّضة للنقصان والتقصير في حقّ القارئ وحقّ بعض الشعراء. ولن ندّخر جهدا للتنويه في طبعة جديدة لاحقة، بما قد يكون فاتنا من شعر يستحقّ الاهتمام وأصبح في متناولنا. وجدير بالملاحظة أنّ بعض مجموعات المدوّنة لا يتضمّن تاريخ الصدور، وكان عليّ أن أحقّق في ذلك من خلال ما لديّ من وثائق، فإذا تعذّر ذلك، أشير إلى تاريخ تسجيله في المكتبة أو تاريخ حصولي عليه اقتناءً أو إهداء، ما يعني أنّه نشر في ذلك التاريخ أو قبله بقليل. ومن أغرب ما صادفته أنّ بعض تلك المجموعات، كانت بدون ترقيم للصفحات، فكان من المتعذّر حتى تحديد مكان ما قد نستشهد به من نصوصها. *** جميع مجموعات هذه المدوّنة صدرت في الفترة الفاصلة بين سنتيْ 1956، سنة الاستقلال وفسخ معاهدة الحماية، و2010، باستثناء مجموعتين اثنتين: مدن الصمت (2011) لمحمد الجلالي ولم نستشهد منها إلا بما تأكدنا من أنه كان قد نشر في الصحف قبل ذلك التاريخ بسنوات، وأشرنا إلى ذلك في مكانه. أما المجموعة الثانية فهي للشاعر الراحل عمّار منصور الذي وافته المنية سنة 2012، وقد نشرت بعد وفاته تحت عنوان «قصائد مُهَرَّبَة من السّجْن» ورأينا من المفيد، ووفاء لروحه، أن نستحضر بعض نصوصها باعتبارها شهادة حيّة على ما كان يتعرّض له الناشطون المناضلون المعتقلون في سجون النظام من اضطهاد وتعذيب يفوق التصور أحيانا. مع الملاحظة أنّنا لم نُدرج عنوانها ضمن قائمة عناوين مجموعات المدوّنة. وقد أملى علينا الغرض الرئيسي من هذه الدراسة أن نتجنّبَ ما أمكن النصوصَ التي كان لصاحبها أيُّ ولاء للنظام، حتّى وإن خرج في مرحلة سابقة من تجربته الشعرية في عباءة المعارض أو الرافض ؛ فقد احتاج نظام الرئيس بن علي إلى أجهزة أمنية منضبطة، وآلات مدنيّة فاعلة، لينجح في الاستمرار في السلطة طيلة ثلاث وعشرين سنة وقبله الزعيم الحبيب بورقيبة إحدى وثلاثين سنة. وكانت من بين تلك الآلات، المغسلة الإعلامية التي وقفت على أقدام عشرات المثقفين الموالين للنظام من إعلاميين وكتاب وشعراء ومسرحيين وسينمائيين ومطربين. وما كان لعجلة تلك الآلة أن تدور لولا أقلامهم وأصواتهم. ومن غير الأخلاقي إذن، أن ندرج في مياه حبر هذه المدونة، إلا عند الحاجة، شعراء البلاط في عهد بورقيبة، وكلّ شاعر انخرط في الحملات التي نظّمت لدعم زين العابدين بن علي وسوّلت له نفسه أن يكتب متحدثا عنه، على سبيل المثال: «لماذا أصوّت لبن علي؟»، أو: «نحن نوفمبريون ونرشح بن علي» أو «لهذه الأسباب أطالب بن علي بالترشح»، أو «وفاء لمنقذ البلاد». وكلفنا اختيارنا هذا مشقة مجانية أحيانا وجهدا إضافيّا ضائعا، فقد نجهد في نقل نص من مصدره ونعكف على تحليله ضمن مسار البحث ونحبّر فيه الصفحات، ثم نتفطن فجأة، إلى أن صاحبه انخرط ذات يوم، في ركاب السلطة وأصبح واحدا من قائمة المباركين لسياسة النظام والمناشدين في تلك الآلة الدعائية، فنضطر للتخلّي عن صفحات طويلة استهلكت منا جهدا ثمينا وأضاعت لنا وقتا أثمن. ولا أخفي على القارئ الكريم أن ذلك كان يسبّب لي فضلا عن الجهد والوقت الضائعين، شديد الألم والحسرة، لأنّ من بين هؤلاء الشعراء من كان ولا يزال، صديقا أجلّ أعماله الأدبيّة. فكأنني حينها أنتزع قطعة من لحمي. وإذ أتمسّك بهذا الاختيار من منطلق المبدأ الوطني والأخلاقي والفكري، أنا على يقين بأنّني أضع نفسي هدفا لسهام الكثيرين وعدائهم، إلّا أنّني تربّيت على أنّ المبدأ قبل المجاملة، وأحقّ بالاعتبار والمراعاة. *** لكنّ اقتصارنا على رافد شعري عربي واحد وحصره في فترة محددة، لم يجعلنا، مع ذلك، بمنأى من صعوبات جمّة أخرى، أبرزها اختزال عقود من الإبداعات الأدبية لأجيال متتالية من الشعراء، في بضع صفحات. إضافة إلى تبويب الكتاب أولا، واختيار المنهج المناسب لمقاربة النصوص ثانيا. أمّا التبويب فقد اهتدينا، في مسيرة البحث، إلى مسلك سلس، قادنا من عتبات المدونة إلى الوطن المنشود، فجاء الكتاب في أربعة أبواب، قسّمناها إلى جزئين، على النحو التالي: خصّصنا هذا الجزء الأوّل للبابين الأوّل والثاني ؛ وتعلّق أولهما بالنصوص الموازية ؛ وفيه توقفنا عند أهم محطات عتبات المدوّنة النصّية ؛ وتناول الباب الثاني علاقة الشاعر بالوطن ونظرته إلى الشعر ووظيفته بعنوان: «الشاعر، الوطن، الشعر» ؛ في حين ضمّ الجزء الثاني بابين آخرين. وبهما ندخل، بدايةً، غمار الشعر الوطني في علاقته بالواقع الذي ولد فيه ومحاولة كشفه ذلك الواقع وموقفه منه ونقده. ثم نخلص، في الباب الثاني من هذا الجزء، إلى رفض الواقع والنظام والتحريض على الثورة نشدانا لواقع أفضل وحلما بوطن أجمل وأسعد. أمّا الصعوبة الثانية فكانت أشقَّ من الأولى. فنحن أمام عدد غير قليل من المبدعين والإصدارات، وكمّ هائل من نصوص حِقْبَة امتدت لحوالي خمس وخمسين سنة، وهي ذات نزعات وقناعات متلوّنة شكلا ومضمونا. فأيّ السبل نختار لتناول هذه المدوّنة، متنًا ومنهجًا؟ هل نكتفي بفرز بعض الأسماء وتسليط الضوء على إبداعاتهم، ونغضّ الطرف عن العشرات!؟ وماذا علينا فعله منهجيا؟ هل نعالج مدونتنا موضوعاتيا أم تاريخيا أم اجتماعيا أم نفسيا أو بنيويا أم لسانيا سيميائيا...!؟، والقائمة المناهجية لا تكاد تنتهي. من حيث المتن، اخترنا ألا نغمط حق أيّ شاعر طالت شعره يدانا وترصّعت نصوصه أو بعضها بوعي وطني مناوئ للنظام، غزُر إنتاجه أو قلّ. أما منهجيا، فإننا نصل هنا إلى ذلك السؤال الذي يُطرَح دائما على الناقد: أي منهج استندت عليه في مقاربتك للنصوص التي تناولتها، مع أننا لا نكاد نجد، فيما قرأنا، ناقدا واحدا متحمّسا لتبنّي منهج أحادي بعينه. ولا نعتقد أن سبب ذلك يخفى على أحد ؛ فالمنهج، مهما يكن، ليس في النهاية سوى اجتهاد شخصي قام به ناقد أو نخبة من النقاد وروّجوه بكتاباتهم وسلطتهم الأدبية. ولأنّ باب الاجتهاد في العلوم الإنسانية على وجه الخصوص لا ينغلق أبدا، فإنّ الاجتهادات لا تنتهي ولا ينتهي معها تنوع المقاربات وتلوّنها. لذلك فإن أي منهج نقدي وأي إجراء تحليلي يبقى في اعتقادنا وجهة نظر اهتدى إليها البعض وتحمّس لها البعض الآخر لما لها من أهمّية فعلية مخصوصة، تساعد على مقاربة النص من زاوية محدودة، قاصرة عن الإلمام بجماع النص ومقاصده. ولا أظنّني أفشي سرّا إذا قلت إنّ الغاية الأخيرة التي نضعها نصب أعيننا في دراستنا هذه، عند الشروع في أي تحليل، ليس البحث عن أدبية النص وجمالياته، وإنما الوصول إلى الإجابة على السؤال: ماذا قال الشاعر وما الذي هدف إليه من قوله وما ناتج الفعل القولي الذي قد يكون تركه في نفس المتلقي؟ هذا ما تمليه علينا طبيعة بحثنا نفسها. إلّا أنّ المجتمعات لا تعتبر الأعمال الأدبية مكسبا ثقافيا تعليميا نفعيا فقط، وإنما تنظر إليه كمصدر جمالي أيضا، يحقّق للمتلقّي متعة فنّية وسعادة ذهنية ونفسية ؛ بدونها يتعذّر على أيّ عمل فنّي بلوغ غايته، بل تصبح سبيله إلى المتلقّي مبتذلة قليلة الفائدة كغيرها من السبل، إن لم تكن معدومة أصلا. لذلك أصبح من البديهيات أنه لا يمكن الفصل بين الشكل والمضمون في العمل الأدبي شعرا أو نثرا ؛ ولذلك أيضا، كان لا بد قبل الإجابة على تلك الأسئلة، أن يمر التحليل بمراحل عديدة في شكل إضاءات، تبدأ من قراءة النص إلى تفكيكه ورصد تراكيبه وعلاماته المتميّزة وتقصّي دلالاتها المعجمية واللغوية والبلاغية والمعنوية وملاحقة ظلالها وتداعياتها وتناصصاتها، وإن لم نتخذ ذلك قاعدة مطلقة لمقاربة جميع ما استحضرناه من شواهد نصّية ؛ فقد نكتفي أحيانا بمجرد تعليق مختزل كاف لبلوغ الغرض، أو بتوجيه نظر القارئ إلى بعض العلامات المفاتيح في النص، دون مماحكة ولا إطالة. فضلا عن أن النص هو الذي يفرض علينا في الغالب أسلوب قراءته ومراحلها، فتختلف باختلافه وتتلوّن ببصمته. مع الملاحظة أننا قد نتناول النص كاملا، دفعة واحدة، أو على مراحل مترادفة أو منفصلة متباعدة، بل كثيرا ما سوف نكتفي بمقاطع منه أو مقطع واحد، حسب ما يقتضيه المقام، تجنبا للإطالة والدخول في تفاصيل قليلة الفائدة، في ذلك المكان ؛ وهو ما سيحتّم علينا العودة، أحيانا، إلى النص نفسه في مقطع آخر منه على الغالب، مرة أخرى وربّما أكثر، لنتوقّف عند فكرة أخرى أو قيمة من القيم تحليلا وتنويها أو تلميحا. وربّما استغرب القارئ تناولنا للعديد من هذه النصوص الشعرية وكأنها من جنس السرد والقص. وإنما فعلنا ذلك لأننا نرى أن كل عمل فني إنما هو قصة تُروَى، سواء كان من جنس القصة أو المسرح أو حتى الرسم والموسيقى والرقص... ولا يختلف هذا عن ذاك إلا بمادّته وأسلوب معالجتها. لذلك كلما استشعرنا أن النص غنيّ بأركان القص وأدواته لم نتردّد في الاستفادة منها واتخاذها مفاتيح لدخول أروقة النص وكواليسه، تقصّيا لمعانيه ودلالاته، وسعيا إلى إطباق أشمل على مقاصده. ثمّ إنّ موضوعنا، من جهة أخرى، يفرض علينا بطابعه الأدبي التاريخي السياسي الاجتماعي، كما ذكرنا، أن نكون نسقيين حينا، في مقارباتنا للنصوص، سياقيين حينا آخر ؛ فلم نتردد في التعريج على الجوانب التاريخية أو السياسية أو النفسية أو الاجتماعية أو الفلسفية التي التبست بالنص، مستعينين في أغلب الأحيان بما نقدر عليه من إجراءات ألسنية وأسلوبية وبنيوية وسيميائية تداولية، بحثا عن أكبر قدر من الإحاطة به. لذلك، عبثا يبحث القارئ الكريم عن منهج أحادي بعينه قامت عليه مقاربة النصوص في بحثنا هذا. فنحن ننطلق، كما سبق أن ألمحنا، من المبدأ الذي يرى أنّ أيّ منهج أو أي إجراء ليس غاية في حد ذاته، وإنما هو أداة لإضاءة النص وفك رموزه وكشف معانيه، ووسيلة ننتظر منها أن تقودنا إلى مقاصد الشاعر وفعل القول الشعري وصداه المنشود في ذهن المتلقي. وعليه، دعونا نطلق على هذا الأسلوب في التناول، إن كان لا بد من التسمية، المنهج التكاملي، وهو منهج نقدي سبقنا إليه الكثير ممّن قرأنا لهم من نقاد عرب وأجانب. ولا نظنهم فعلوا ذلك إلا لما أنسوا فيه من استقلالية في التناول وعفوية في النظر. هكذا نكون قد حسمنا الأمر منهجيا، بالاصطفاف إلى جانب العديد من أهل الذكر، واخترنا ألا نغلق على أنفسنا زنزانة منهج بعينه، وألا نتردّد في الاعتماد على أي منهج نجد بين إجراءاته عونا على إضاءة أشمل. آملين أن يتوَّج جهدنا بأكبر قدر من النجاعة وتحقيق ما أمكن من تسليط للضوء على ما أراد الشاعر الوطني تبليغه للمجتمع وللنظام القائم وللتاريخ. وقد حرصنا في الوقت نفسه على شكل النصوص الشعرية كليا في الغالب، تذليلا لأي صعوبة محتملة قد تحول دون قراءة صحيحة للنص. كما أشرنا إلى ما تفطنّا إليه في نصوص المدوّنة من أخطاء لغوية أو مطبعية، وأثبتنا في الهامش الصورة التي وردت عليها في الأصل، ولم ندخر جهدا في التنبيه إلى ما صادفناه من إخلالات في الوزن بالنسبة للنصوص الشعرية الموزونة، علّنا نقدّم بذلك خدمة للطالب خاصة أو المدرّس غير المتمكّن من علم العروض والذي يستخدم هذه المادة الشعرية لأي غرض تربوي. ولمزيد من الفائدة، وضعنا بين يدي القارئ الكريم، في آخر الكتاب، ملحقا أشرنا فيه إلى بعض المحطات التاريخية والأحداث التي طرأت على البلاد خلال الحقبة المعنيّة، وهي معلومات قد تحتاج للوصول إليها من القارئ، إلى جهد ووقت، ففضّلنا أن تكون في متناوله بطريقة أسرع، سعيا لمزيد من تنويره حول المرحلة التاريخية التي ولدت فيها هذه المدونة الشعرية. وخليق بنا أن نستحضر، قبل أن نختم هذا التمهيد، المناسبة التي دفعتني إلى المجازفة والدخول في عباب هذا اليمّ الشعري، والانكباب على موضوع غير هيّن كهذا ؛ وكانت على النحو التالي: بينما كنت أبحر في الشبكة العنكبوتية، بحثا في إحدى المسائل، صادفت موضوعا يتعلّق بشخصي، بعنوان: (نورالدين عزيزة وبذور الثورة التونسية) في موقع لا عهد لي بمعرفته، هو (شبكة السراب الثقافية)، بإمضاء «سيف العرب» أحد أعضاء هذا الموقع، بتاريخ 17 فيفري 2011. ولا أخفي عليكم أنني بقدر ما فوجئت بذلك، سعدت ؛ فوجئت، لأنّ التفات مثقف، في ذلك التاريخ المبكر بعد سقوط النظام، إلى دور الشعر في الثورة التونسية الوليدة، لم يكن بالأمر المتوقّع. وسعدت لأنّني أحسست أن هناك دائما في مكان ما، أحدا يقرأ الشعر ويفهمه ويتذوّقه، والأجمل من كل ذلك، لا يبخل عليه بالتنويه والتقدير. في تلك اللحظات قلت في نفسي، إنّ الذين كتبوا شعرا من أجل تغيير الأوضاع في بلادنا، ليس نور الدين عزيزة وحده، وإنّما هناك عشرات من الشعراء التونسيين الذين رفعوا أصواتهم بعد فترة من الاستقلال، في وجه الاستبداد، استنكارا للأوضاع المتردية التي سادت قبل الثورة، وتشوّفا إلى الحرية والحياة الكريمة ؛ فكرّسوا كتاباتهم للكشف عن حقيقة الواقع، وطالبوا بالتغيير من أجل مستقبل أفضل، في وقت كانت تعزّ فيه الشجاعة ورفض الانحناء. وبقدر ما كان هذا البحث فرصة للتنويه بأعمال العديد من الشعراء التونسيّين الوطنيّين، أتاح لي الفرصة لاستعادة أصوات رفاق وأصدقاء أعزّاء، عرفوا مرارة العيش والمنافي ولوعة الغربة عن الأهل بسبب حبهم للوطن ورأيهم المخالف وتطلعهم إلى غد أجمل ؛ منهم من خمد صوته وهو في الحياة لظروف لا نعلمها، ومنهم من صمت إلى الأبد وبقيت بعده كلماته تتوهّج بأحلامه. أفلا يستحق هؤلاء الشعراء لمسة وفاء تذكّر ولو ببعض ما قدّموه من دمهم الفكري في سبيل عزّة الوطن؟! عسى أن نوجّه بذلك أنظار الأجيال الناشئة إلى تلك الكنوز الوطنية الباهرة ونُنمّي في وجدانهم مزيدا من الوعي والروح الوطنية والثقة بالنفس. *** في خاتمة هذا التمهيد، لا يسَعُني إلّا أنْ أتقدّم بالشكر الجزيل لكلّ من مدّ لي يد المساعدة لإنجاز هذا العمل ولو بالتشجيع أو ببيت شعريّ واحد، ومنهم الأصدقاء الذين أمدوني بالنادر من أعمالهم وغير أعمالهم وأخص بالذكر الصديق الروائي الراحل محمد الهادي بن صالح والذي كان قد بلغ به السخاء، أن وضع على ذمتي، هو وحرمه الفاضلة، مكتبة منزله الجليلة بسعادة بالغة، مكّنتني من الاطّلاع على بعض المصادر الشعرية المهمة وإثراء مدوّنتنا بها. ولا يفوتني أن أتوجّه بخالص شكري للأستاذ عبد اللطيف عبيد الذي تكرّم بمنح هذه الدراسة الكثير من وقته الثمين فانكبّ عليها بعين القارئ المتأنّي الفطن، والناقد الخبير الرصين، ولم يدّخر جهدا في إفادتها بملاحظاته الدقيقة اللبقة. وحريّ بي أن أخصّ أخيرا، زوجتي بتحية امتنان وتقدير على صبرها الجميل وتعهّدها هذا البحث بالمراجعة وإسداء النصيحة إلى آخر لحظة. نورالدين عزيزة
Language | Ebook |
---|
This website use cookies to help you have a superior and more relevant browsing experience on the website. Read more...
Nom | Fournisseur | Finalité |
---|---|---|
Session | www.Al-Fikr.com | track and identify requests from a single browser |
Culture | www.Al-Fikr.com | track the user's preferred culture information |
Antiforgery | www.Al-Fikr.com | stop unauthorised posting of content to a website |
Consent | www.Al-Fikr.com | allows you to ask for (and track) consent from your users |
We have detected that your email and password are linked to a number of organizations with different roles!
Please choose the access you wish to grant with this session from the following list:
Title | Price | Total |
---|