Id | Title | Start page | End page |
---|
Id | Title | Start page | End page |
---|
«اذا كان هنالك من هو حقيق بأن نعلن انّنا مدينون له بهذا العمل المتواضع فهو الدّكتور هشام جعيط نفسه لأنّه لم يكن ممكنا أبدا أن ننظر بعيدا - ان تبيّن حصول ذلك أصلا - في هذا الموضوع ، ونحن هوّاة معرفة وفكر لا غير، لولا ‘وقوفنا على كتفي عملاق ‘ مثله كما ورد في عبارة برنار دو شارتر الشهيرة وتبعه في ترديدها نيوتن وباسكال وغيرهما. و لكن ، وحتّى لو كنّا نتحدّث عن الوحي و النبوّة المقدّسين عند شعبنا و عن فلسفتهما و تاريخهما العظيمين عند دكتورنا موضوعيّا ، و بقطع النّظر عن المحبّة و التقدير ذاتيّا ،لا بدّ لنا من الصّرامة في الحكم لأنّه ‘ لا مجاملة في العلم ‘ كما ‘ لا حياء في الدّين ‘ كما ‘ لا خلابة في البيعة ‘ كما كان يقول أجدادنا العرب المسلمون القدامى.»
مقدّمة عامّة أن يُقْدم مفكّر ومؤرّخ عربي مسلم على تناول موضوع النّبوّة المحمّديّة من النّاحية النّظريّة في كتاب ‹الوحي والقرآن والنّبوّة› ومن النّاحية التاريخيّة في كتابيْ ‹الدّعوة المحمّديّة في مكّة› و›مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام› فذلك ليس مطلوبا فقط بل وضروري أيّما ضرورة. إنّ الأمر مطلوب وضروري معرفيّا، أوّلا، ولكن كذلك قوميّا ودينيّا بل وإنسانيّا عالميّا، ثانيا، بسبب الوضع الذي تردّت إليه الأوضاع العربيّة والإسلامية والإنسانيّة نظرا إلى ما يحصل مؤخّرا مع العولمة من استفحال ظاهرة التطرّف الاستشراقي الفكري والسياسي، من ناحية، والتطرّف الاستشراقي المقلوب، الإسلاموي، من ناحية ثانية. لكنّ هذا الوضع بالتّحديد، وهو إطار تاريخيّ له تأثيره الحتميّ على عمل المؤرّخ، هو ما يجعل أيّ عمل حول الموضوع المذكور صعبا جدّا، ليس فقط من النّاحية الموضوعيّة العلميّة بسبب تعقّد الظاهرة بل وكذلك من حيث الحساسيّة السياسيّة القوميّة والدّينيّة بل والإنسانيّة. إنّ أيّ معالجة لهاته المواضيع هي بالضّرورة، بشكل ما، استجابة لحاجة اجتماعيّة يشعر بها المفكّر والمؤرّخ، إضافة إلى كونها قد تمثّل موضوع تخصّص علميّ أو خيارا شخصيّا في هذه المرحلة، وهما يتقاطعان حتما مع الحاجة العامّة إلى معالجة هكذا نوع من المسائل. في كلّ الحالات، يبدو وكأنّ الدّكتور هشام جعيْط، بتناوله للموضوع، يمسك بحلقة هامّة من سلسلة الواقع القومي الدّيني العالمي الرّاهن، معرفيّا وسياسيّا. ولهذا السّبب سيبدو مثل من يحرّك سكّينا في الجرح الذي يوجع الجميع الآن عالميّا: يوجع القوميّين والإسلاميّين والليبراليّين واليساريّين سياسيّا والعلماء والمفكّرين والفنانين وغيرهم من المهتمّين بالعلم والفكر والفنّ، بل ويوجع الدّول والتجمّعات الإقليميّة والنّظام العالمي بكامله، إذ الكلّ يفكّر في الإسلام الآن، ولكن من زوايا مختلفة معرفيّا ومن مصالح مختلفة اقتصاديّا واجتماعيّا وسياسيّا وثقافيّا، وطنيّا وقوميّا ودوليّا. ونظرا إلى كلّ هذا، من الطّبيعي أن يثير هذا الكتاب جدلا واسعا -لم يحظ بما يكفي منه حسب رأينا إلى درجة غريبة باستثناء بعض ما صدر من مراجعات حول الكتاب الأوّل منذ سنوات- وردود أفعال قد تكون متناقضة إلى أقصى حدّ. وضمن هذا المناخ رأينا أنّه من الضّروري فتح صفحة حوار -نتمنّى ألاّ يكون سجالا علميّا ونقديّا ولكن ليس انتقاديّا- مع الدّكتور راجين أن يساعد ذلك على حسن التعاطي المعرفي والسياسيّ مع ثلاثيّة نعتبرها دون أيّ تردّد ثروة فكريّة وطنيّة وقوميّة وإنسانيّة، مركّزين على محور العلاقة الابستيمولوجيّة، النّظريّة والمنهجيّة، بين المؤرّخ بوصفه عالما والنّبيّ بوصفه رجل دين، وما ينتج عنه من تفاعل العلميّ والدّينيّ في البحث الفكري العامّ والبحث العلميّ التّاريخيّ الخاصّ. ونبدأ بتصدير الثلاثيّة وبمقدّماتها. حول تصدير الكتاب: صدّر الدّكتور هشام كتابه الأوّل ‹الوحي والقرآن والنّبوّة› بما يلي: «والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلٌّ من عنْد ربّنا.» قرآن، آل عمران، آية 7. ثمّ تلاه بقول هـ. تاين حول الإيمان ورد فيه: «الإيمان مقدرة خارقة تعمل بجانب وحتّى ضدّ قدراتنا الطّبيعيّة... فهي تكشف عن ما وراء ما، عن عالم جليل وعظيم، هو وحده الحقّ ويحجبه عنّا عالمنا الزّائل. وفي أعماق الرّوح، تتكدّس الانطباعات كالمياه المخفيّة، وهنا يتكوّن ينبوع حيّ يتضخّم ويغلي في الظّلام، ثمّ يصعد ويخترق ويتفجّر. والإنسان الذي يطفو عليه هذا التيّار تأخذه الفجأة من هذا الفيضان ولا يعود يعقل ذاته. كلّ الحقل المرئي من الوعي يشهد انقلابا وتجدّدا.. ثمّ ينبلج فيه إيمان لا يقاوم وتصوّر قويّ وتأكيد متشنّج، وفي بعض الأحيان إدراكات حسّيّة من شكيّلة خاصّة. فهي لا تأتي من الخارج وإنّما من الدّاخل. وهي ليست بالهامات ذهنيّة، بل حقّا حاسّة فيزيقيّة كرؤى القدّيسة ‹تيريز›، والأصوات البيّنة لـ›جان دارك›، والعلامات الموسومة على جسم ‹القدّيس فرانسوا›.» كما صدّر الدّكتور الكتاب الثالث ‹مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام› بقول هيغل التّالي: «في إمكان الإنسان ربط الأبدي والقدسي بالعَرَضيّ، بل يتعيّن عليه ربطهما بعنصر عارض.» وإذا كان تصدير الكتاب الأوّل لا يوجد في التّرجمة الفرنسيّة الصّادرة لاحقا، سنة 2007 -كما حذفت منها بعض الفقرات الواردة في النصّ الأصلي العربي كما سنرى لاحقا- فإنّ تصدير الكتاب الثالث يوجد في النصّين الفرنسي والعربي. والمهمّ الآن هو ما يلي: أوّلا: إنّ التّصدير الذي يقوم به أيّ كاتب لمؤلّفه يساير عادة قناعاته ويكثّفها لتهيئة القارئ وتوجيهه لما سيجده في المتن بطريقة أشبه ما تكون بالومضة الإعلانيّة التّجاريّة التي تقوم بدور استهلالي للمنتوج الاستهلاكي الذي سيشتريه المستهلك. ثانيا: اقتطع الدّكتور هشام من الآية السّابعة من سورة آل عمران مقطعا صغيرا فقط هو ‹والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا› ووجّه القارئ إلى معنى ضيّق جدّا، في علاقة العلم بالإيمان، في حين أنّها إحدى الآيات الأكثر جدلا في القرآن من حيث محتواها وتركيبها اللّغوي. إنّ الآية كاملة هي التّالية: «هو الّذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مُحكمات هنّ أمٌّ الكتاب وأُخَرٌ متشابهات فأمّا الّذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا ّ الله والرّاسخون في العلم يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا وما يذّكّر إلاّ أولو الألباب.» إنّ القرآن في هذه الآية يعترف بأنّ فيه آيات محكمات، واضحات بيّنات، وأخرى متشابهات، غامضات غير بيّنات، على عكس ما يذهب الدّكتور أحيانا كما سنرى ذلك لاحقا. كما أنّ قراءة الآية حولها اختلاف بين المسلمين مبنى ومعنى. فهناك من يقرأ الآية كما يلي ‹...لا يعلم تأويله إلا الله والرّاسخون في العلم› بمعنى أنّ الرّاسخين في العلم يعلمون مثل الله تأويل المتشابه من القرآن. وهنالك من يفهم الآية على أنّ الله وحده يعلم تأويل المتشابه من آيات القرآن ويعتقد أنّ مقطع ‹والرّاسخون في العلم› هو بداية مقطع جديد يتعلّق به باقي الجملة التي تقول ‹يقولون آمنّا به كلّ من عند ربّنا› -وهو ما اختاره الدّكتور- ما يعني أنّ مقطع ‹والرّاسخون في العلم› إذا عطف على ‹الله› سيعني أمرا وإذا وضعنا فاصلة أو نقطة بعد عبارة الّله واعتبرت عبارة ‹والرّاسخون في العلم› بداية مقطع جديد في القراءة فسيعني ذلك أمرا آخر تماما. ومن ناحية أخرى، في الآية حكم قيمة دينيّ حول من ‹في قلوبهم زيْغ› -وسنقرأ عبارة ‹القلب› هنا مجازا الآن- إجرائيّا -لأنّه مضخّة دم لا غير ولا علاقة له بالتّأويل والإيمان أبدا على عكس الدّماغ- وحتّى حول عمليّة ‹التّأويل› -من خلال اتّباع ما تشابه- نفسها عندهم، وذلك لأنّها ترد مقابلة لعمليّة ‹علم التأويل› الخاص بالله من ناحية ومقابلة لفعل التأويل/الإيمان الذي يقوم به ‹الرّاسخون في العلم ‹...ومن الممكن التوسّع في الأمر إلى درجة التساؤل حول العلاقة الصّراعيّة بين ‹علم التّفسير› الإسلامي الكلاسيكي والإسلاموي و›علم التّأويل› الحديث والمعاصر كما ظهر مع الفلسفة وعلوم الاجتماع وعلوم الأديان الحديثة. ثالثا: كلّ من المقطع أعلاه من الآية السّابعة من سورة آل عمران والمقتطف المأخوذ عن هنري تاين يوجّهان القارئ نحو الإيمان الدّيني إمّا من منطلق ‹الرّسوخ في العلم› حسب الآية أو من منطلق كون ‹الإيمان مقدرة خارقة تعمل بجانب وحتّى ضدّ قدراتنا الطّبيعيّة›. ونحن لا نناقش هنا حقّ الدّكتور في تصدير كتابه إيمانيّا بل في تصديره لكتاب يقول عنه، كما سنرى ذلك لاحقا، إنّه ليس كتابا دينيّا بل هو كتاب علميّ تاريخيّ ‹أرضي ووضعي› لا يعبأ بالقناعات الدّينيّة أو الإلحاديّة لصاحبه. رابعا: إنّ تصدير الكتاب الثالث -وهو تصدير كان يمكن أن يرد منذ بداية الكتاب الثاني- بقول هيغل أعلاه يجعلنا نتساءل أيضا كما يلي: هل نحن بصدد قراءة كتابيْن في علم التاريخ -بعد أن كان تصدير الكتاب الأوّل دينيّا تقريبا- أم بصدد قراءة كتابيْن في فلسفة للتّاريخ على الطّريقة الهيغليّة التي تعتبر التّاريخ تحقّقا للرّوح المطلق في المجتمع والفكر، وبالتّالي ستعتبر تاريخيّة الدّعوة في مكّة والمدينة ‹مجرّد› تحقّق للوحي الإلهي في التاريخ العربي الإسلامي والعالمي لا غير تقريبا؟ --- ثلاث مقدّمات في مقدّمة: على الرّغم من عدم أهمية محتوى المقدّمات في الكتب العلميّة والتي تكتب عادة بعد الانتهاء من المتن والخاتمة -بالنظرإلى أهمّيّة ما يبقى من أثر معرفيّ بعد الانتهاء من قراءة الكتاب- فإنّنا اخترنا التفاعل معها كما يلي: في مقدّمة الكتاب الأوّل من الثلاثيّة ورد: «وبعدُ، فهذا الكتاب وما سيتبعه كتاب علميّ وليس بالدّراسة الفلسفيّة، ويعتبر بالتّالي كمعطى ما هو لبّ الدّين الإسلامي: الوحي، الإيمان، البعث...» لكن في مقدّمة الكتاب الثاني كتب الدّكتور ما يلي: «فهذه الدّراسة ليست كالأولى التي أرادت لنفسها البحث في ماهية الوحي والنّبوّة من وجهة نصف كلاميّة-ميتافيزيقيّة ونصف تاريخيّة وكما يمكن أن يراها المفكّر المسلم الآن. بل هي دراسة تاريخيّة بحتة في موضوع حسّاس جدّا لأنّه يلتصق بالماورائي ويتّصل بالمعتقد. والتّاريخ إنّما هو علم وضعيّ وأرضيّ يتناول فعاليّات الأفراد والمجتمعات البشريّة في الماضي، ويخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد.» ويواصل الفكرة نفسها في مقدّمة الكتاب الثالث (مع العلم أنّه ورد خطآن في تعريب نصّ الدكتور هنا مقارنة بالنّصّ الفرنسي بحيث وقعت ترجمة عبارة ‹زائد› بعبارة ‹نافل› وترجمة عبارة ‹أمّا هو› بعبارة ‹هو الآخر› التي تفيد التّشابه بين الهمّين العلمي-التاريخي من ناحية والفكري-التراثي من ناحية ثانية وذلك عوض اختيار كلمة تفيد العكس تماما، كما يفيد المعنى الفرنسي الذي عناه الدّكتور في الفقرة) حيث قال: «هنا يتعيّن على النّقد أن يتدخّل بقوّة، عاملا على تصفية كلّ ما هو زائد. همّي هو التّاريخ، وهمّ التّراث، هو الآخر، دينيّ: أعني تبجيل صورة النّبيّ، وتعداد أدنى أفعاله وحركاته، وتعميق الإيمان لدى جماعات سكانيّة غفيرة ومتنافرة، رعايا إمبراطوريّة الخلافة الّذين كان ينبغي إدماجهم في رؤية مشتركة.» يبدو لنا أنّ تردّدا وتمزّقا بين مقاربتين في خصوص علاقة العلم بالدّين يلفّان العمل منذ مقدّماته وبداياته. مرّة يقول لنا الدّكتور إنّه سيدرس المسألة في كتبه الثلاث دراسة علميّة، ومرّة يقول إنّ كتابه الأوّل يختلف عن الثاني (والثالث) وكان فقط دراسة ‹نصف كلاميّة-ميتافيزيقيّة ونصف تاريخيّة› قام بها مفكّر مسلم، بينما الجزء الثاني والثالث هما ‹دراسة تاريخيّة بحتة› قام بها عالم تاريخ يؤمن بكون علمه التّاريخيّ ‹هو علم وضعي وأرضي› و›يخرج عن دائرة الإيمان والمعتقد›. إنّ الخلط بين الدّراسة نصف الكلاميّة-الميتافيزيقيّة ونصف التاريخيّة وبين الدراسة التاريخيّة البحتة من ناحية، والخلط بين المفكر المسلم وعالم التّاريخ من ناحية ثانية، يظهران منذ المقدّمات إذن، وهذا الخلط يجعلنا نطرح السّؤال المركزي التّالي على الثلاثيّة بكاملها: إلى أيّ مدى وُجد العلم عموما والعلم التّاريخي خصوصا في بحث ‹المفكّر المسلم› في الكتاب الأوّل ‹نصف الكلامي-الميتافيزيقي ونصف التّاريخي›، وإلى أيّ مدى وُجد التّفكير نصف الكلامي-الميتافيزيقي ونصف التّاريخي في بحث عالم التاريخ ذي المنهج ‹التّاريخي البحت› في الكتابين الثّاني والثّالث؟ --- إنّ هذا الخلط البادي منذ مقدّمات الكتب الثلاث سوف يكون له تأثير عليها جميعا وذلك من خلال طريقة بناء الموضوع والمنهج المتّبع والهدف المراد تحقيقه. وسوف لن نتوقّف هنا في المقدّمة لتحليل ذلك بل سنترك الأمر للإنجاز في محتوى العمل وننهي به في الخاتمة. ولكن لإعطاء صورة أولى تساعد على تلمّس زاوية مقاربتنا للثلاثيّة نقدّم الأفكار المختصرة والأسئلة الانطلاقيّة التّالية: أوّلا: الموضوع يقدّم الدّكتور بحثه كما يلي: «الوحي والنّبوّة، معاني القرآن، تاريخيّة النّبوّة والنّبي التي ستأتي في الآخر لوضعه في الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصّة، بل هو أدنى من الحقيقة الدّينيّة المحضة التي لا يمكن مقاربتها إلّا بحسّ رهيف وعقلانيّة تفهّميّة ومعرفة دقيقة.» منذ البداية ندرك إذن أنّ دراسة ‹الوحي والنّبوّة ومعاني القرآن›، خاصّة، ستكون أقرب إلى الدّراسة ‹نصف الكلاميّة-الميتافيزيقيّة ونصف التاريخيّة› لأنّ موضوعها ‹الحقيقة الدّينية المحضة›. ولكن سنعرف أيضا أنّه حتّى عندما نصل إلى ‹تاريخيّة النّبوّة والنّبي› فلن يكون للإطار الواقعي قيمة خاصّة لأنّه يبقى ‹أدنى من الحقيقة الدّينيّة المحضة› التي ستبقى موجودة دائما مّما يطرح السّؤال التّالي: أيّ مكانة سيحتلّها الواقع التّاريخي إذن في التّحليل، فهمًا وتفسيرا، مقارنة بالحقيقة الدّينيّة المحضة؟ ثانيا: الاختصاص عندما يذكر الدّكتور مبحث الوحي والنّبوّة يقول في خصوص الوحي والقرآن مثلا إنّ: «لحظة الوحي ولحظة القرآن ليستا تماما منفصلتين، وإنّ ثمّة إشكالا وغموضا لم يخل منهما أيّ دين. وليس بالطّبع للعلم الموضوعي ولا للفلسفة قول في هذا المجال. ولا معنى لأيّ فيزيائي أن يقرّر أنّ الأنبياء لم يروا الإله أو لم يحصل لهم تجلّ ما، وليس للفيلسوف أن يفسّر عقليّا هذه الظّواهر كما حاول ذلك مثلا مسكويه في الفوز الأصغر. وليس حتّى للعالم النفساني قول حصيف في هذا الميدان. ولا يحقّ ذلك للمؤرّخ طبعا إذ هو يتعامل مع الوثائق والنّصوص بكامل التفهّم للفترة المدروسة ومن دون إجحاف في نقد هذه النّصوص.» وبما أنّنا نعرف أنّ كلّ تاريخيّة الدّعوة المحمّديّة ارتبطت بالوحي والقرآن سواء في مكّة أو المدينة، وطالما أنّ هذه العلاقة لا يمكن دراستها لا بالعلم ولا بالفلسفة ولا بعلم النّفس ولا حتّى بعلم التّاريخ فمن حقّنا أن نسأل: إذا كانت أهمّ علاقة ربطت بين الله والنّبيّ وهي علاقة الوحي/القرآن لا يمكن دراستها لا فلسفيّا ولا علميّا ولا نفسيّا ولا حتّى تاريخيّا، فأيّ دراسة تلك التي سينجزها الدّكتور هشام -في كتابه الأوّل خاصّة- والتي محورها علاقة الوحي/القرآن نفسها؟ ألا يبدو أنّه لم تبق لنا سوى إجابة واحدة: المفكّر المسلم هو وحده القادر على ذلك عبر دراسة كلاميّة؟ وهل من مجال فعلا لإنجاز دراسة ‹تاريخيّة بحتة›، ‹أرضيّة ووضعيّة› في الكتابين الثاني والثالث إذا كانت الدّراسة الأولى النظرية تحمل الصفات المذكورة؟ ثالثا: المنهج يكتب الدّكتور هشام «وقد حاولنا في هذا الكتاب الاعتماد على المعرفة واستنباط منهج عقلانيّ-تفهّمي لم نجده لا عند المسلمين القدامى (...)، ولا عند المسلمين المعاصرين. وأكثر من ذلك، أنّ المستشرقين على سعة اطّلاعهم، لم يأتوا ببحث يذكر في هذا الميدان. وتبقى دراساتهم هزيلة مقارنة بفحول الفكر والتاريخ في الغرب. وقد اعتمدنا على منهجيّة هؤلاء في مواضيع أخرى لأنّهم لم يهتمّوا بالإسلام إلّا قليلا.» منذ الفقرة المذكورة أعلاه حول الموضوع «الوحي والنّبوّة، معاني القرآن، تاريخيّة النّبوّة والنّبي التي ستأتي في الآخر لوضعه في الإطار الواقعي من دون إعطاء هذا الواقع قيمة خاصّة، بل هو أدنى من الحقيقة الدّينيّة المحضة التي لا يمكن مقاربتها إلا بحسّ رهيف وعقلانيّة تفهّميّة ومعرفة دقيقة»، ثم يرد في آخر مقطع من الفقرة الأخيرة حول عنصر الاختصاص أعلاه «... ولا يحقّ ذلك للمؤرّخ طبعا إذ هو يتعامل مع الوثائق والنّصوص بكامل التفهّم للفترة المدروسة ومن دون إجحاف في نقد هذه النّصوص»، يمكن أن نبدأ بتحسّس معنى العقلانيّة التفهّميّة عند الدّكتورالتي هي في الأساس منهجية لمقاربة ‹الحقيقة الدّينيّة المحضة› إضافة إلى كونها، وهي تقابل المنهجيّة الأرضيّة والوضعيّة، تطالب بعدم الإجحاف حتّى في نقد النّصوص المندرجة في الوقائع التاريخيّة نفسها. والمشكل الأكبر هو التّالي؛ يكتب الدّكتور: «فالنّبيّ وسيط بين العالم الأرضي الإنساني وبين العالم الآخر، عالم الرّوح والإله. والتجلّي والوحي يبقيان الصّيغة الحاسمة التي تتجاوز العقل، وبالتّالي لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة المحدودة. والنّبيّ لا يرنو إلى البرهان التجريبي وإنّما إلى التصديق به والإيمان بالله وبالغيب، أي بالإله اللّامرئي.» كما يقول في الهامش 7 حول الوحي إنّه «...يبقى لغزا يتجاوز العقل.» والسّؤال هنا: كيف يمكن إذن لباحث يعتمد منهجيّة عقلانيّة-تفهّميّة أن يرسم لنفسه هدف إنجاز بحث يقول عنه إنّه علمي ولكن في موضوع يقول عنه هو نفسه إنه ‹لغز› و›يتجاوز العقل› و›لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة› ويعترف أنّ ‹النّبيّ لا يرنو إلى البرهان التجريبي وإنّما إلى التصديق به والإيمان بالله وبالغيب›؟ ألا يوجد احتمال هنا للخلط بين ‹العقلانيّة التفهّميّة› التي تهدف إلى الفهم والتفسير في النّهاية وبين ‹الإيمانيّة التفهّميّة› التي تهدف إلى التّصديق الدّيني لا غير؟ رابعا: المتن يقول الدّكتور إنّ الّذي أنقذ مشروعي هو «اعتمادي المقتصر على القرآن كمصدر كما على التاريخ المقارن للأديان، والانفتاح على أفق الثقافة التاريخيّة والأنتروبولوجيّة والفلسفيّة.» ومن حقّنا التساؤل هنا، في انتظار معرفة كيفيّة الاعتماد على القرآن نفسها، حول ما يلي: هل سيطوّع ‹المفكّر المسلم› ما يعرفه حول ‹التاريخ المقارن للأديان والثقافة التاريخيّة والأنتروبولوجيّة والفلسفيّة› لدراسة القرآن دراسة ‹نصف كلاميّة-ميتافيزيقية ونصف تاريخيّة› أم لدراسته دراسة ‹تاريخية بحتة› و›أرضيّة ووضعيّة›؟ ألا يحتوي هذا الاختيار -على الرغم من إمكانه ومن إمكان أن تنتج عنه معرفة مهمّة جدّا- على احتمال المبالغة في تحميل المتن أكثر ممّا يحتمل و/أو المبالغة في تصديقه من ناحية والمبالغة في تكذيب غيره من المصادر من ناحية ثانية؟ خامسا: الهدف إذا كان الإسلام دينا توحيديّا محوره علاقة الله بالنّبيّ من خلال التجلّي والوحي الذين ‹يبقيان الصّيغة الحاسمة التي تتجاوز العقل، وبالتّالي لا يمكن تفسير ذلك بمعارفنا البسيطة المحدودة›. وإذا كان الدّين التّوحيدي «ليس فلسفة أو حكمة أو فنّا أو أدبا، بل نواته الأساسيّة تجلية الله ليس بالبرهان وإنّما بالوحي- التجلّي (...) فالإيمان ليس انضماما أو انتماء إلى رؤية كونيّة، بل التزام كامل يلفّ الضّمير وكلّ الحياة (...) يستلزم الوحي وحضور الإلهي ووجود إله كمرجع في الحياة وآمالها وآلامها وكحاكم في اليوم الآخر. وذلك يستدعي طبعا تصديق النّبيّ بل تقديسه بالكاد.» فهل ستكون الدّراسة ‹ برهانيّة› أم ‹إيمانيّة›؟ وهل سيكون هدف الدّراسة معرفيّا؛ فهميّا-تفسيريّا أم فكريّا؛ تصديقيّا-تقديسيّا؟ أليس من حقّنا الخوف من محاولة استثمار العلم، أداة لاغير، لمحاولة ‹البرهنة التجريبية› على ما لا يمكن البرهنة عليه أصلا وباعتراف الدّكتور نفسه؟ --- عند هذا الحدّ نصل إلى أمر نعتقده مهمّا جدّا في التّقديم من النّاحية العلميّة، إذ كما يقال: «لا يكتفي علم التّاريخ بسرد الأخبار... بل هو أيضا انعكاس للبارديغمات الكبرى السّياسيّة أو الدّينيّة أو العلميّة لعصره.» فإذا كنّا حذّرنا منذ البداية من مشكل احتمال الخلط بين دراسة ‹المفكّر المسلم›، ‹ نصف الكلاميّة-الميتافيزيقيّة ونصف التاريخيّة›، من ناحية، وبين دراسة عالِم التاريخ ‹التاريخيّة البحتة والأرضيّة والوضعيّة› التي لا تعبأ لا بالإيمان ولا بالمعتقد ولا تهتمّ إلّا ‹بالظّواهر الخارجيّة›، فعلينا توضيح الموقع والمنظور اللّذيْن سنتناول انطلاقا منهما ثلاثيّة السّيرة النّبويّة باختصار الآن ولكن بكلّ وضوح. من حيث الموقع، إنّنا لم ننجز هذا العمل من موقع المفكّر (أو الفيلسوف أو حتّى المثقّف) ولا من موقع عالم التّاريخ. بالكاد يمكن الادّعاء أنّنا أقرب إلى القارئ الجيّد الذي يقرأ كثيرا ولا يكفّ عن التأمّل والتفكير في أمّهات قضايا بلده وشعبه ولكن لا يكتب باحترافيّة أكاديميّة صارمة، بل يكتب وهو يفكّر تقريبا كما يفكّر البعض وهم يتكلّمون لاغير. ومن حيث العلاقة بالتاريخ تحديدا، سوف لن نتعرّض إلى المعطيات التاريخيّة والتاريخيّة إلا بقدر ارتباطها بالأطر النظريّة والمنهجيّة. فعملنا هذا ليس عملا تاريخيّا يريد اقتراح سيرة نبويّة جديدة أو مقارنة هذه السيرة بسير أخرى، بل هو حوار يطمح أن يفيد ابستيمولوجيّا ونظريّا ومنهجيّا، في تقييم السّيرة النبويّة كما عرضها الدكتور هشام لا غير. من ناحية أخرى، ومن حيث النظريّة، نعترف أنّنا أقرب إلى ما يمكن تسميته بالتصوّر الجدلي التركيبي المتأثر على السواء بجدليْ هيغل وماركس من ناحية وبنظريّة التعقيد عند ادغار موران من ناحية ثانية، دون ادّعاء الانتساب إلى أيّ مدرسة نظريّة بعينها. بمعنى ما، نحن هنا نتدرّب على الرّؤية النّظريّة من خلال القراءة من ناحية والإقدام على التجربة في التفكير والكتابة من ناحية ثانية ولا غير. وفي خصوص التاريخ تحديدا، نميل إلى ضرورة دراسة الترابطات والتفاعلات المختلفة بين كلّ الميادين ولكنّنا نعتبر أنّ ‹طريقة تحصيل المعاش› باللغة الخلدونيّة أو ‹نمط الحياة الاقتصادية› باللسان الماركسي أو ‹أسلوب النشاط الاقتصادي› الفيبري له وزن استثنائي في شبكة الترابطات والتفاعلات دون أن يعني ذلك أيّ ‹نظرة أحاديّة للتاريخ› كما اضطرّ إلى تسميتها ج. بليخانوف. وهذا يعني أنّنا نرفض الأحاديّات الأخرى كلّها أيضا، مع حدس بأنّه يوجب تحليل ما هو أساسيّ بتركيب عناصر أساسيّة وليس بعنصر واحد في كلّ الحالات. وأنّ حدسنا هذا يميل إلى تحليل التاريخ بفعل الحركات الاجتماعيّة التي هي تركيب اجتماعي تاريخي بين انتماء لموقع اقتصادي-اجتماعي من ناحية ومشروع تاريخي اجتماعي نابع من مرجعيّة فكريّة- ثقافيّة من ناحية ثانية، ويتوسّطهما شكل من التنظيم الاجتماعي التاريخي الذي يؤطّر ويوجّه البشر والممارسة نحو هدف أو أهداف يفرض عليها التاريخ أن تكون سياسيّة بحكم أهمّيّة مسألة السلطة والدّولة في المجتمع. وستقودنا هذه النظرة عموما دون أن ندخل في سجال مثلا مع المنهج التفهّمي، الذي يقول الدّكتور إنّه يعتمده، إلا بمقدار ما يبدو لنا المستنبط في المنهج الخاص للدكتور مخالفا للمنهج التفهّمي كما قدّمه ماكس فيبر مثلا. وسنحرص على توضيح الفرق بين التصوّر العقلانيّ التفهّمي الفيبري وتصوّر الدكتور هشام الخاصّ بشكل تدريجيّ حتى نصل إلى الخاتمة التي سنحاول فيها استكمال توضيح الأمور نسبيّا ولكن من منظور اجتماعيّ تاريخي أوسع من الفيبريّة نفسها. من الطّبيعي أنّنا لم نشرع في كتابة هذا العمل، الذي يشغلنا منذ صدور الكتاب الأوّل من السيرة في 1999، إلا بسبب وجود نوع من الحماس للموضوع والتعاطف معه، ولو نقديّا. ونحن نعترف كوننا نشعر بحماس وتعاطف كبيرين مع النبيّ والإسلام ومع الدكتور هشام وسيرته بشكل كبير جدّا. ولكن التعاطف الأوّل ليس عقائديا دينيا ضيّقا بل هو تعاطف قوميّ/أنسنيّ وثقافيّ (وثلاثتهما يحويان الدّيني). أمّا الثاني فليس تعاطفا مهنيّا أكاديميّا تاريخيّا ولا قطريّا تونسيّا بل هو تعاطف فكريّ بالأساس بسبب شعورنا بعظمة الإسهام الذي قدّمه الدّكتور ولا يزال في الفكر العربي، بل والإنساني، مقارنة بأغلبيّة باقي المثقفين التونسيين تقريبا. ولكنّنا لا نستطيع الاستسلام إلى الحماس والتعاطف وحدهما فنعمل العقل النقدي حتى في أقدس المقدّسات. وتلك بعض من مهمّة العلم وإلا فلا داعي له أصلا. وفي هذا الإطار لا بدّ من توضيح الشعور العاطفي الذي نحاول تعديل دماغنا على موجته ضمن ما يسمّى ‹التضامن مع الموضوع› لأنّه قد يساعد القارئ على تفهّمنا من ناحية ونقدنا وتجاوزنا من ناحية ثانية. لقد تمّ تعديل الدّماع عاطفيّا/ منهجيّا (والعامل النفسي خطير جدّا في التأثير في البحث العلمي هنا) على التمييز بين أشكال ثلاثة من التطرّف واستبعادها واختيار طريق رابعة كما يلي: - رفض التضامن المطلق مع الموضوع - رفض العداء المطلق للموضوع - رفض اللّامبالاة المطلقة بالموضوع - اعتماد التضامن النّسبي معه ويمكن للتوضيح الاستفادة هنا من رباعي مفاهيمي أجنبي (نذكر الفرنسي منه في الهامش أدناه) يستعمل في عديد المهن ذات العلاقة بالإنسان مثل المهن الطبية وشبه الطبية والخدماتيّة والتواصلية وحتى بعض المهن التجارية، وهو رباعيّ ‹الاستهجان› و›الاستلطاف› و›اللامبالاة› و›التعاطف› الذي يؤثّر حسب الدراسات العلميّة المختلفة في ثالوث التمثل العقلي والعاطفي والعملي للموضوع عند التفاعل معه. والمقصود هنا بلغة أخرى هو تجنّب كلّ من ‹الإسلاموفوبيا› (الإلحاديّة والعلمانية والدينية غير الإسلامية المتطرّفة) و›الإسلاموفيليا› -إن صحّ التّعبير- (الإيمانيّة الإسلامية المتطرفة) ومن البرود العلمي المزعوم المقترب من اللامبالاة بالموضوع الذي يدّعيه صنف من البحث والباحثين بتعلّة الحياد. وفي المقابل، نعتقد أنّه لا بدّ من نوع من التضامن معه يكون حذرا بشكل يمكّن من موضعته قدر الإمكان على الرغم من المحافظة على شعور عاطفي تجاهه ينبع ليس فقط من حبّ معالجة الموضوع -الحبّ الذي لولاه ما أنجز بحث فكري أو علمي خارج الالتزام المهني الأكاديمي- وإنّما أيضا حبّ الفاعلين فيه بوصفهم -في مثالنا- نبيّ العرب والمسلمين من ناحية، وأحد أهمّ مؤرّخيهم في ميدانه دون منازع من ناحية ثانية. إننا لا يمكن إلّا أنّ نشعر بنوع من التعاطف والتضامن مع الموضوع هنا بوصفه يتعلّق بدين شعبنا ونبيّه وبعلم مؤرّخنا وسيرته النّبويّة مهما كانت معتقداتنا الدينيّة وتقييماتنا العلميّة الشخصية. ولكنّ ذلك لا يمنع في إطار البحث الفكري والعلمي من ترك ما يكفي من مسافة تساعد على محاولة التقييم الموضوعي وممارسة الفعل النقدي. ولا بدّ من الاعتراف هنا باحتمال تأثير الهجرة في نفسيّة وذهنيّة ومسلكيّة البحث الذي نقوم به. فللهجرة وقع كبير على الكتابة في المواضيع الكبرى التي تهم الوطن والشعب. فهي من ناحية تساعد على الاقتراب من تصوّر ريمون آرون ذي الطّابع المنهجي حول ما يسمّيه «المشاهد الملتزم»، على الرغم من اعترافنا الشخصي أنّنا ما عدا احترام الغزارة العلمية في كتاباته وكثافتها لم نشعر لحظة واحدة بالتضامن معه ومع كتاباته بسبب نزعتيه النظريّة والسياسيّة الليبيراليّتين. كما تساعد الهجرة، من ناحية أخرى، على الاطّلاع قدر الإمكان على آخر النظريّات والمناهج. ولكنّها تسم طريقة الإحساس والتفكير والسلوك الاجتماعي والعلمي بشيء يشبه المزيج الغريب بين ثلاثي الحنين والألم والحلم، خاصّة عندما نقارن بين ما وصل إليه غيرنا وما تردّى إليه وضعنا في السنوات الأخيرة لأسباب عديدة، من بينها انخرام معرفيّ وسياسي في علاقتنا بالمقدّس، فيكون ذلك المزيج خطيرا في تأثيره على مواقفنا العلميّة والسياسيّة خطورة تستدعي بذل مجهود عسير في محاولة تحييده قدر الإمكان. وسنعتمد ما يمكن أن نسمّيه ‹العلمانيّة المنهجيّة› التي تراوح بين الإيمان المنهجيّ والإلحاد المنهجيّ بالمعنى التالي: عندما نحاول تفهّم الفاعلين الدّينيين وتفسير أفعالهم نحاول الاقتراب من المعنى الذي يعطونه لفعلهم عبر الإيمان المنهجي بهدف الفهم من الدّاخل. ولكن حتّى لا نسقط في المنهج الإيماني الذي هدفه الدراسة التبجيليّة، نحاول مساءلة قراءتنا من خلال مقاربة إلحاديّة منهجيّة ترسم مسافة عن المعنى الذي يعطيه الفاعل الديني لفعله دون السّقوط في المنهج الإلحادي الذي هدفه عادة الدّراسة الانتقاديّة السلبيّة للظاهرة الدّينيّة. ونحن نعترف أنّ هذا التمشّي صعب جدّا في التّطبيق بسبب تأثير القناعات الدينيّة والفلسفيّة الشخصيّة فيه. ولكنّنا سنحاول إذ لا حلّ آخر. والعلم علمانيّ أو لا يكون، وهو ليس إيمانيّا ولا إلحاديّا، فالعلماء هم المؤمنون أو الملحدون. وعلى أمل الاقتراب من الحياد القيمي المقبول ولكن دون التنكّر للالتزام بالدّفاع عن قيمتين أساسيّتين لا نخجل من إعلانهما جهرا: قيمة الحقيقة وقيمة الإنسان. والتحييد القيمي للبحث صعب جدّا عندما نحاول التّوفيق بين قيمتيْ البحث عن الحقيقة في الفلسفة والعلم وعن الأنسنة في الاجتماع والسياسة. فكثيرا ما يحدث في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة أن يخفي الباحث الحقيقة، أو قسما منها، دفاعا منه على ما يعتقده مصلحة وطنه وشعبه. فليست الحقيقة وحدها ثوريّة كما يقال -على الأقلّ في مرحلة تاريخيّة محدّدة وليس في أفق التاريخ الفكري والإنساني العام- فالوهم أيضا يمكن أن يكون ثوريّا -في وقت ما محدود على الأقلّ- لأنّه ينشّط المخيال حول الماضي التاريخي ويساعد الخيال حول المستقبل التاريخي ويدفع إلى الحلم وبالتالي يساعد على الفعل التاريخي، ولكن إلى حين. وهنا يطرح العلم نفسه للتقييم والنّقد والتعديل من أجل الاستشراف الاستئنافي للمسيرة الفكرية والتاريخيّة، ولكن دون علمويّة وضعيّة مدّعية للقدرة على قتل كلّ إيديولوجيا وكلّ يوطوبيا، فالإيديولوجيا واليوطوبيا تبقيان ضروريّتين للتحفيز والتحريك التاريخي الذي لا ينتهي. والتاريخ إنّما هو ‹الإسم الذي نطلقه على السّيرورة› كما قال جورج بالدنييه ذات كتاب. وسنكتفي في تناول سيرورتنا المتعلّقة بالنبوّة وتمثلها النظري والتاريخي بكتب الدكتور هشام متنا علميا. سيكون البدء مع ثلاثيّة السيرة ثم سنعود إلى كتابي ‹الفتنة› و›الشخصية العربيّة الإسلامية والمصير العربي› مع تناول مختصر منفتح على كلّ العلوم التي تلامسها. وسيساير تخطيط العمل في فصوله هذه الكتب الخمسة. وستكون لعملنا حدوده النظرية والمنهجية قطعا ‹فلا ندّعي في علمه فلسفة إذ حفظنا شيئا وغابت عنّا أشياء›. وهو محاولة في الجدل حول علم تاريخ النبوّة ولكنّه ليس كتاب تاريخ ولا حتّى تأريخ، ولا هو كتاب دين، بل هو أقرب إلى الدّراسة المعرفيّة لعمل تاريخي وبإمكانيّات متواضعة بسبب عدم الاختصاص في الفلسفة وفي ابستيمولوجيا العلم عموما والعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة تحديدا. ويبقى بذلك عمل هواة تقريبا. وهو عمل نقديّ. وعن هذا الجانب النقدي لا بدّ من قول كلمتين: أوّلا: هو عمل نقدي وليس بالعمل الانتقادي السّلبي ولا بالتقريضي المدحي. وهو ليس حتّى تقييميّا بالمعنى الدّقيق للكلمة الذي يعني تبيان الإيجابيّات والسلبيّات معا. لقد فضّلنا الاكتفاء بالنّقد أساسا، وهو أنفع لعلم التّاريخ وللقارئ. ثانيا: والنّقد هنا مصدره الحبّ: حبّ الحقيقة من ناحية وحبّ الإنسان من ناحية ثانية. حبّ العلم وحبّ الشعب وثقافته ودينه وحبّ مؤرّخه الكبير، و»من يحبّ جيّدا يعاقب جيّدا» كما يقول المثل الفرنسي الشّهير. ولكنّ الحبّ يعمي كما يقال، وكلّ ما نرجوه ألا يتبيّن أنّ هذا الحبّ كان باتولوجيا مرضيا. وتبقى الكتابة في هذا الصّدد أيضا كتابة ‹بالعقل القلبي› كما يقال، مجازا طبعا. وللقرّاء الكلمة الأخيرة بعد الانتهاء من قراءة العمل. وأخيرا، لا بدّ من التّذكير كون هذا العمل بدأ بمقال صدر في موقع ‹كرّسات الإسلام› في فرنسا تشجّعنا على نشره بعد تفاعل بعض الأساتذة في قسم علم الأديان في جامعة كيبيك في مونتيريال في كندا ممن يعرفون الدّكتور هشام منذ كان أستاذا زائرا في جامعة ماكغيل الشهيرة هنا ويحترمونه. كما شجّعنا على نشره رئيس تحرير ‹كرّاسات الإسلام› وقتها، إلى درجة أنّه نشره دون مراجعة مضمونيّة ولغويّة. وليته فعل ذلك لأنّ المقال احتوى على هنات في الجانبين نتحمّل تبعاتهما لوحدنا طبعا. وآخرا، نودّ أن نشكر الصّديق رياض الطّريقي الذي أهدانا ثلاثيّة السيرة النّبويّة باللغة الفرنسيّة أوّل ما علم باهتمامنا بها إثر استقرارنا بمونتريال في كيبيك بكندا. كما نشكر بشكل خاصّ الصّديق توفيق العرفاوي الذي ناقشنا معا وطويلا الكتابين الأوّلين من السّيرة النّبويّة منذ سنوات في تونس واختلفنا واتّفقنا وتباعدنا في المكان. وهو حاضر هنا بشكل مباشر شكليّا بسبب تكرّمه بالمراجعة اللغويّة للمخطوطة قبل نشرها. ولكنّه حاضر مضمونيّا أيضا ولو بشكل جزئي وغير مباشر، ولذلك نقول له: إنّ مدى صمتك هناك يسكن صدى صوتنا هنا. مونتريال، كيبك، كندا، فيفري 2019.
Language | Ebook |
---|
This website use cookies to help you have a superior and more relevant browsing experience on the website. Read more...
Nom | Fournisseur | Finalité |
---|---|---|
Session | www.Al-Fikr.com | track and identify requests from a single browser |
Culture | www.Al-Fikr.com | track the user's preferred culture information |
Antiforgery | www.Al-Fikr.com | stop unauthorised posting of content to a website |
Consent | www.Al-Fikr.com | allows you to ask for (and track) consent from your users |
We have detected that your email and password are linked to a number of organizations with different roles!
Please choose the access you wish to grant with this session from the following list:
Title | Price | Total |
---|